أحدث إدراجات الموقع
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ، قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ، إِنَّـهُ هُـوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ، وَهُـوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيـدُ ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ... }
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها .. كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة الدنيا - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق !
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة . وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار . يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون . جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، مـن المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان . وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط . أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان .. ليست هي القيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة . والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة . فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان . وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب . ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق .. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه وهم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس هو الحياة الدنيا وحدها . وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس .. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة . وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
* * *
النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة .. هو طمأنينة القلب :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْـرِ اللَّهِ تَطْمَئِـنُّ الْقُلُوبُ } ... [ الرعد : 28 ] .
وهو الرضوان والود من الرحمن :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد " ... [ أخرجه الترمذي ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . فإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني مشياً يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] .
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين .. وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا .. ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .. [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ المعارج : 42 - 44 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع .. كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال فـي القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
* * *
هناك إشعاع آخـر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات ..
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجِّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم . وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً .. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً ، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود ..
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى . القريب منها والبعيد ..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله . وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله . أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجـر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً . رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
* * *
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صبراً آل ياسر . موعدكم الجنة " ..
وعن خبّاب بن الأرثّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين . ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه . ما يبعده ذلك عن دينه . والله ليتممن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " .. [ أخرجه البخاري ] .
* * *
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه . هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن . لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال . فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة .. بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال .. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل . فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبِّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يتلفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فيصل بين الحق والباطل في هذه الأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله .. لا جزاء على الآلام والتضحيات .. لا ، فالأرض ليست دار جزاء .. وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
* * *
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ..
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ..
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها . ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدَعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت . وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار .. كلا .. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون !
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها .. كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة الدنيا - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق !
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة . وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار . يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون . جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، مـن المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان . وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط . أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان .. ليست هي القيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة . والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة . فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان . وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب . ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق .. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه وهم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس هو الحياة الدنيا وحدها . وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس .. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة . وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
* * *
النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة .. هو طمأنينة القلب :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْـرِ اللَّهِ تَطْمَئِـنُّ الْقُلُوبُ } ... [ الرعد : 28 ] .
وهو الرضوان والود من الرحمن :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد " ... [ أخرجه الترمذي ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . فإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني مشياً يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] .
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين .. وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا .. ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .. [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ المعارج : 42 - 44 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع .. كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال فـي القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
* * *
هناك إشعاع آخـر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات ..
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجِّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم . وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً .. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً ، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود ..
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى . القريب منها والبعيد ..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله . وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله . أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجـر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً . رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
* * *
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صبراً آل ياسر . موعدكم الجنة " ..
وعن خبّاب بن الأرثّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين . ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه . ما يبعده ذلك عن دينه . والله ليتممن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " .. [ أخرجه البخاري ] .
* * *
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه . هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن . لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال . فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة .. بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال .. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل . فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبِّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يتلفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فيصل بين الحق والباطل في هذه الأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله .. لا جزاء على الآلام والتضحيات .. لا ، فالأرض ليست دار جزاء .. وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
* * *
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ..
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ..
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها . ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدَعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت . وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار .. كلا .. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون !

الإمام الشهيد سيد قطب
الدعوة الإسلامية اليوم حاجة بشرية عامة ، قبل أن تكون ، حاجة الوطن الإسلامي ، نعم إن الوطن الإسلامي الكبير الممتد من شواطيء الأطلنطي إلى شواطيء الهندي والباسفيكي ، والتغلغل في قلب أوربة وإفريقية وآسيا في حاجة أولية إلى هذه الدعوة ، ولن يكون له بغيرها كيان حقيقي . ولكن البشرية كلها ليست اليوم بأقل حاجة إلى هداية الإسلام من ذلك الوطن الإسلامي الخاص .
وسواء أكانت البشرية تحس هذه الحقيقة أم لا تحسها ، فإن هذا لا يغير من وضعها شيئاً فحاجة المريض إلى الطب والعلاج لا تتوقف على شعور المريض بهذه الحاجة ، بل إنه كثيراً ما يرفض تناول الدواء ، وكثيراً ما ينفر من الطبيب ، وكثيراً ما يدعي الصحة والقوة وهو أشد ما يكون حاجة إلى الطبيب والدواء .
كتب " ج. هـ. دينسون " في كتابه : " العواطف كأساس للحضارة " يصف القوة التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها ، وكان يبدو أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود اربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال ، وإن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ؛ إذا القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام ، وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله - واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " .
والبشرية اليوم ليس احسن حالاً وإن اختلفت الأسباب ان الحيرة والقلق والشرود والاضطراب تزين كلها على الضمير البشري في كل مكان في البلاد التي كانت تعتنق ديانة سماوية أو في البلاد الوثنية على السواء ، لم يعد هنالك يقين في شيء حتى يجد الضمير البشري في ظله الهدوء والراحة والقرار . لم يعد هذا الضمير يطمئن إلى عقيدة أو مبدأ أو وضع أو نظام . لقد فضت أوربة وأمريكا عنها كل مقدساتها القديمة ابتداء من القرن السادس عشر . وآمنت بالعلم وبلغ هذا ( الإله الغربي ) الجديد ذروة قداسته خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحسب الناس هناك أن له مقررات ثابتة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . . ولكن ما كاد القرن العشرون يبدأ وينتصف حتى اهتز عرش هذا الإله المتقلب الذي لا يثبت على حال . لقد اتضح أن مقرراته كلها قابلة للنقض ، وانه هو الذي ينقضها بيديه يوماً بعد يوم . بل لقد بدا هذا الأله ذاته ضائعاً بين تصوراته وأدواته ومقاييسه إلا أنه لم يعد له مقياس ثابت يفىء اليه ، بعدما أصبح هو بيده يحطم سائر المقاييس التي ظنها الناس غير قابلة للتغيير والتعديل .
كان هذا الإله قد بدأ بتصور خاص للمادة . . وكان قد أعلن أن كل ما عدا المادة وهم لا يتنازل - جلالته - للنظر فيه أو البحث عنه . . فاذا هو ينتهي - بعد تحطيم الذرة على يديه - إلى أن المادة كما تصورها شيء لا وجود له . وأنه في حاجة إلى جهد شاق لتعريفها من جديد ! ومن ثم دار هذا الإله حائراً بين مخلوقاته ، التي تكذب هي بذاته تصوراته !
ومن ثم فقدت البشرية اطمئنانها إلى هذا الإله الجديد ، الذي فقد هو ذاته وإيمانه بنفسه وبوسائله ومقاييسه وتصوراته !
وكانت البشرية وقد انفلتت من قيود العقيدة الدينية قد انطلقت إلى عبادات جديدة فأمريكا مثلاً قد نبذت كل المقدسات التي عرفتها البشرية في تاريخها كله ، واتخذت لها آلهة ثلاثة جديدة : الانتاج . والمال . واللذة . وروسيا على الضفة الأخرى كفرت بالله الواحد واتخذت لها آلهة المادة ، والاقتصاد ، وكارل ماركس .
ولكن شيئاً فشيئاً أخذت البشرية تتبين أن هذه الآلهة وتلك إنما تقود العالم كله إلى حروب طاحنة واستعمار بغيض . وحيوانية تنتكس إلى مدارج البشرية الأولى ؛ وان العقد النفسية والأمراض العصبية ؛ والقلق الفردي والعائلي والاجتماعي والدولي هي البركات التي تتلقى بها تلك الآلهة الكافرة عبادها المتحمسين !
ولست أدري كيف يعيش الناس في روسيا السوفيتية وراء الستار الحديدي ولو كانوا يعيشون - كما تدعى الأبواق الشيوعية - لما كان لهذا الستار الحديدي ضرورة ، ولرحبت الحكومة السوفيتية بمن يطلبون زيارتها لرؤية ما فيها . ولتركت الشعب الروسي يطلع على نظم العالم الأخرى وهي مطمئنة إلى أنه سيؤثر نظامه ويتحمس له ، ويلعن النظم الأخرى .
ولكني أدري كيف يعيش الناس في أمريكا . بلد الإنتاج الفخم والثراء الفاحش واللذائذ المباحة . . لقد شهدتهم هنالك والقلق العصبي يأكل حياتهم على الرغم من كل مظاهر الثراء والنعمة ووسائل الراحة . إن متاعهم هياج عصبي ومرح حيواني وإنه يخيل اليك أنهم هاربون دائماً من أشباح تطاردهم ، إنهم الآت تتحرك في جنون وسرعة وهياج لا يقر له قرار . وكثيراً ما كان يخيل إلي أن الناس هناك في طاحونة دائرة لا تني ليل نهار ، صباح مساء ، تطحن بهم ويطحنون ، لا يهدأون لحظة . ولا يطمئنون إلى أنفسهم ولا إلى الحياة من حولهم - إن كانوا يحسون ما حولهم - ليست هنالك لحظة للتأمل ، ولا حتى للشعور بالحياة ذاتها وهي تدور حتى أوقات راحتهم ورياضهم في المنتزهات والغابات وعلى شواطيء الأنهار والبحيرات . . . تراهم فيها فنحس أنهم في " شغل ؛ " كأي شغل خلال العمل ، وكل ما هنالك من فارق أنهم في مكان غير المكان ، وفي عمل غير العمل . ولكن لا راحة ولا هدوء ولا تأمل ، ولا اطمئنان .
إنهم ينتجون كثيراً . ما في ذلك شك . إنهم يكسبون كثيراً ما في هذا شك أيضاً ولكن لمن ينتجون ولمن يكسبون ؟ لذات الكسب ولذات الانتاج ؛ العنصر الإنساني لا وجود له ، تأمل ذلك الكسب وذلك الانتاج الاحساس بدوافعه ونتائجه في يقظة فكر وحساسية قلب ، تذوقه بحس الإنسان المتميز عن حس الآلة . . كل ذلك لا تلمحه في سيما وجه ولا في تعبير لسان !
إنها الطاحونة الدائرة ليل نهار : تطحن ، وتبعثر ما تطحنه . وتجمعه مرة أخرى لتطحنه من جديد ! والناس والأشياء والزمان والمكان . . كلها تدور في تلك الطاحونة الدائرة التي لا تكل ولا تمل ، ولا تكف لحظة عن الدوران . .
إنه الدوار ! ! ! هدوء القلب . اطمئنان النفس . راحة الضمير . لذة الفرح اليقظ بثمرات الجهد والارتياح . المودات الحلوة بين الناس التجاوب الروحي بين الاصدقاء . الاهتمامات الناشئة عن الوشائج الوثيقة في الاسرة تلك المشاعر التي تشعر الفرد أنه ليس وحده . وتمنحه الثقة والطمأنينة والراحة بعد الجهد والكد والعناء العقيدة في قوة أكبر من قوة الأرض ، تلك العقيدة التي تشعر الفرد أنه ليس ذرة تائهة في هذا الكون العريض بلا أصل ولا قرار . . كل هذا لا وجود له في قاموس الحياة الأمريكية ، ولا في محيط النفس الأمريكية .
إنه الخواء ! ! !
الخواء على الرغم مما يبدو من زحمة في الحياة وامتلاء .
هنالك مرح كثير ، يخيل إلى من لا يعرف أنه سعادة . . . تلك الضحكات التي ترن في الهواء . تلك " المهارشات " التي تتحسس مساقط اللذة في الأجساد . تلك الكؤوس التي لا تفرغ من الخمر ، تلك الضجة التي لا تهدأ ولا تسكن . . ولكنه المرح الحيواني لا السعادة ، ولا الفرح ، إز عربدة السكارى ليست سعادة ، كذلك المرح الحيواني ليس فرحاً ، إنه انطلاق الطاقة المكبوته تحت ضغط العمل المرهق . إنها قرقعة كقرقعة الآلات لتفريغ البخار . . .
ولكن أين الإنسان ؟ في كل هذا الركام ؟ أين الإنسان المتميز عن الآلة وعن الحيوان ؟ ولست اتصور من وراء الفلسفة المادية في روسيا إلا حياة أحط من تلك الحياة . فحتى ذلك المرح الحيواني الناشيء من الطلاقة والثراء في امريكا لا أتصوره هناك ؛ وفي هذا الدرك تستقر البشرية اليوم في الشرق وفي الغرب سواء .
إن البشرية كلها في حاجة الينا : في حاجة إلى عقيدة في الضمير ، يستروح في ظلها من هذا الهجير القائظ . ولطمئن في رحابها من ذلك القلق ، ويستقر في حضنها إلى قرار .
لقد تعب هذا الضمير البشري من الجري وراء ذلك الإله المتقلب . . العلم . الذي يحطم موازينه في كل لحظة ، ويكفر بمخلوقاته وتكفر به مخلوقاته ، كلما انتهى إلى رأي جديد .
إن العقل قد يملك أن يتابع خطوات ذلك الأله المتقلب ، أما الضمير ففي حاجة إلى ثبات واطمئنان وقرار .
ولقد تعبت البشرية من الارتكاس في حمأة اللذائذ ، ومن عبادة المادة واللذة والانتاج إن الانتاج يجب أن يكون خادماً للبشرية لا أن تصبح البشرية خادمة له . وإن اللذة يجب أن تكون ملكاً لصاحبها لا أن تستعبده وتستذله . .
والعقيدة في الله هي التي تمنح البشر حريتهم في وجه اللذائذ وفي وجه الآلات !
والعقيدة في الله يجب في الوقت ذاته ألا تكون قيداً للعقل . ولا سجناً للفطرة ، ولا حائلاً دون الانتاج والنمو في الحياة .
ومن ثم يبرز الاسلام وتتميز دعوة الإسلام ، وتتجلى حاجة البشرية كلها إلينا في هذا الأوان .
حاجة الضمير الفردي إلى الاسترواح والثقة والاطمئنان .
وحاجة العقل البشري إلى الطلاقة والحرية والنشاط .
وحاجة الاسرة الخاصة إلى الحماية والرعاية والثبات .
وحاجة الاسرة البشرية إلى التعارف والتعاون والسلام .
وحاجة الفرد إلى الاعتراف بوجود وخصائصه وفطرته .
وحاجة المجتمع إلى الحماية والتوازن والاستقرار .
إن شجرة الحضارة البشرية تهتز وتترنح اليوم كما كانت تهتر وتترنح قبيل مولد " الرجل الذي وحد العالم جميعه " فما أشد حاجة البشرية إلى رسالة هذا الرجل لتنقذها مرة أخرى .
إن البشرية كلها في حاجة إلينا : في حاجة إلينا ، في حاجة إلى عقيدتنا ، وفي حاجة إلى مبادئنا ، وفي حاجة إلى شريعتنا ، وفي حاجة إلى نظامنا الاجتماعي ، الذي يكفل الكفاية لكل فرد ، ويكفل الكرامة لكل إنسان . ويكفل سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع . كما يكفل السلام الدولي العام .
ومن هذه الحاجة الإنسانية - بعد عقيدتنا في الله - نحن نستمد قوتنا وثباتنا على الدعوة إلى عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الاجتماعي الخاص ، وسنثبت - بعون الله - ولو تخطفنا الشر والطغيان من كل مكان .
سيد قطب :البشرية الآن فى حاجة شديدة للدعوة الإسلامية
الاثنين، 16 ديسمبر 2013
الناشر : الإمام الشهيد سيد قطب
سيد الظلال :
عدالة الأرض
ودم الشهيد حسن البنا
للأستاذ سيد قطب
قضية هذا الدم الزكي لا تزال بين يدي القضاء، فلا تعليق لدي عليها في موضوعها ووقائعها؛ ولكنها تثير في النفس أشجاناً، وتكشف في الوقت المناسب عن حقائق، وتوجه النظر إلى حقيقة عدالة الأرض، وترفع البصر إلى عدالة السماء، وتميز بين ما يصنعه البشر من القانون، وما يصنعه الله من الشريعة. . (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
إن ممثل الاتهام يقول:
(وبما أن الواقعة - كما أظهرها التحقيق - تتلخص في أن الأمير الاي محمود عبد المجيد بيت النية على قتل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين (المرحوم الشيخ حسن البنا) وإن لم يصل التحقيق إلى تحديد إن كان في ذلك متفقاً عليه مع ولاة الأمور في الدولة - وقتئذ - أو أنه كان يعمل لهذا حتى يحظى بتقدير ولاة الأمور أولئك، لثقته في أنهم أهدروا دم المجني عليه، فبات تنفيذ قتله أمنية يتوقون إلها ويروجون لتحقيقها.
(وتنفيذا لما بيت الأمير الاي محمود عبد المجيد النية عليه، استقدم إليه الأشخاص الذين يعرف فيهم الاستعداد الإجرامي لتنفيذ هذه الجريمة، والذين وقع اختياره عليهم لتدبيرها وتنفيذها، وهم الصاغ حسين كامل، واليوزباشي عبده أرمانيوس، والأمباشي أحمد حسين جاد، ووكيل الباشجاويش محمد إسماعيل، والأمباشي حسين محمدين رضوان، والباشجاويش محمد محفوظ محمد، ومصطفى محمد أبو الليل ويوسف أبو غريب. . . الخ)
وينتهي ممثل الاتهام إلى المطالبة برؤوس هؤلاء الذين حددتهم عريضة الاتهام: ويقف مكتوف اليدين أمام (ولاة الأمور أولئك الذين أهدروا دم المجني عليه) لأن قانون الأرض الذي بين يديه، لا يساعده ولا يساعد العدالة على الأخذ بتلابيبهم على الأقل بتهمة (إهدار دم المجني عليه) وهم المكلفون حماية هذا الدم البريء.
والقضية بين يدي القضاء فيما يختص بالمتهمين، فلا تعليق لي على موضوع الدعوى ولا حوادثها. . ولكن لنفرض أن المحكمة قد أجابت ممثل الاتهام إلى كل طلباته، وسلمت إليه رؤوس هؤلاء المتهمين. . فماذا تساوي تلك الرؤوس بالقياس إلى رأس حسن البنا؟ وماذا تساوي تلك الدماء بالقياس إلى ذلك الدم الزكي الذي أريق؟
ألا ما أعجز عدالة الأرض حينئذ، وما أقصر يدها عن العدل في أضيق معانيه!
إن أكبر الرؤوس في ذلك العهد الآثم، رؤوس (ولاة الأمور أولئك) كما يعبر عنهم ممثل الاتهام في احتقار. . إن أكبر الرؤوس يوم ذلك مجتمعة لا تصلح أن تكون موطئا لقدم ذلك الشهيد الكريم. ولا تحقق ذلك القصاص العادل من ذلك العهد الفاجر وممثليه أجمعين. . فكيف ببضعة رؤوس صغيرة أكبرها رأس ذلك الأمير الاي الصغير؟
هنا تبدو عدالة الأرض قاصرة. ويبدو تشريع الأرض هزيلاً. ويبدو مشرعو الأرض أقزاماً. .
وهنا تبدو المسافة هائلة بين تشريع الله للبشرية وتشريع الإنسان.
ما جزاء ولي الأمر الذي يهدر دم الأبرياء الطاهر؟
ماذا تقول عدالة الأرض في ذلك الاتهام الذي يذكره ممثل الاتهام على سبيل الجزم والتأكيد؟
لعل الحصانة الكاذبة (لولاة الأمور أولئك) هي التي قيدت يد ممثل الاتهام، فلم يستطع إليهم سبيلا!
فأي زيف زيف تلك الدساتير التي تسبغ الحماية على المجرمين وترفعهم فوق العدالة وفوق القانون؟ وأي عجز في عدالة الأرض وأي قصور؟
إن عدالة الأرض هذه لتمنع محكمة النقض في مواطن كثيرة أن تحكم ببطلان الحكم الجائز إذا لم تجد سبيلاً لقبول الطعن فيه شكلاً، فإذا كانت الإجراءات الشكلية كلها صحيحة ومستوفاة وقفت محكمة النقض عاجزة عن أن تنفذ إلى الموضوع. ممنوعة من إحقاق الحق الذي تراه، مكتوفة عن رفع الظلم الذي تعتقده!
وحتى حين تجد منفذاً في الشكل فإنها تقف مكتوفة اليدين إذا لم تجد في التطبيق القانوني الموضوعي خطأ. . مهما يكن الحلم مع ذلك جائرا.
ولقد وقف المرحوم عبد العزيز فهمي هذا الموقف في قضية البداري. لا يجد سبيلاً إلى دفع الظلم وتحقيق العدل إلا صرخة يبعثها من أعماق ضميره، صرخة في وجه قانون الأرض الذي يقف جامداً مكبلاً بالإجراءات!
وتخطئ المحكمة ذاتها ثم يتبين لها الخطأ بعد أن تصدر حكمها، فلا تملك حينئذ أن ترجع إلى الصواب. .
لقد خرج الأمر من يدها بمجرد إصدار الحكم!
ها ها! ها ها لعدالة الأرض التي ترى الحق واضحاً ولكنها لا تملك الرجوع إليه، لأن الأمر خرج من يدها محافظة على الإجراءات!
أما عدالة السماء فتقول: إن الرجوع إلى الحق فضيلة. ولا تمنع القاضي الذي يصدر الحكم، ثم يتبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه، وأن يرتد إلى الحق، لأن الحق أولى بالإتباع.
وبالطبع لا تقف أمام محكمة أخرى أن ترد الحق إلى نصابه بمجرد أن يتبين الحق، غير مقيدة بهذه الشكليات التي يؤثرها قانون الأرض على العدالة، ويصون اعتبارها ولو بإهدار دماء الأبرياء.
فأين عدالة الأرض من عدالة السماء؟!
إننا حين نطلب للإسلام أن يحكم، وحين نطلب لشريعته أن تكون مصدر التشريع. . إنما نطالب بشريعة أرقى، وبإجراءات أدق، وبعدالة أكمل
والجاهلون يقولون: أتريدوننا على أن نرتد إلى الوراء أربعة عشر قرناً؟!
يا للغرور! يا للجهالة! إن قانونكم هو القاصر العاجز، وإن تشريعكم هو المتأخر الجامد. .
إن شريعتنا التي ندعوكم إليها لا تغل يد القاضي عن العودة إلى الحق، في أي وقت وفي أي دور من أدوار المحاكمة. . حتى بعد الحكم، له أن يعود إلى الحق الذي يراه.
إن شريعتنا لا تقف جامدة مشلولة أمام الظلم الواقع والعدل الضائع، لأنها تريد المحافظة على كرامة الإجراءات دون كرامة العدل والحق والقضاء.
إن شريعتنا لا تقف عاجزة أمام ملك ولا رئيس جمهورية ولا رئيس وزارة ولا وزير ولا كبير. . فحيثما كانت جريمة فشريعتنا حاضرة لردع المجرم كائنا منصبه ما كان.
إن شريعتنا لا تسمي القاتل ولا المحرض على القتل صاحب جلالة، ولا تصون ذاته المقدسة، ولا تضعه فوق القانون.
إن شريعتنا لا تدع ولاة الأمور يهدرون دم الأبرياء، ثم يروحون ناجين لا تمتد إليهم يد القانون الشلاء العزلاء.
لهذا نحن ندعو إلى تحكيم شريعة الإسلام؛ لأنها شريعة أكثر تقدما، وأوسع أفقاً، وأكثر مرونة. . ولأن قانونكم الأرضي قاصر جامد متخلف لا يلبي داعي الزمن؛ ولا يقتص لدماء الأبرياء!
تساوقت هذه الخواطر في نفسي وأنا أطالع صحيفة الاتهام. وأنا أبصر بيد العدالة الأرضية قصيرة عاجزة شلاء. وأتطلع إلى عدالة السماء فأراها شاهقة ساحقة متفوقة شماء.
وقلت: ألا يفتح الله على هذه البشرية فتخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء؟ ألا يكشف الله عن بصيرة هؤلاء الناس فيبصروا النور الذي يتخبطون دونه في دياجير الظلام؟
إن أشد ما يثير الضحك المر. . رجال القانون عندنا، أولئك الذين يحسبون شرائعهم عصرية تقدمية، ويعدون شريعة الله قديمة ورجعية!
إنهم لا يكلفون أنفسهم النظر في شرائعهم وشريعة الله. ليعلموا أن عقلية التشريع التي بين أيديهم جامدة قاصرة حين تقاس إلى الشريعة السمحة الحرة الدقيقة العادلة.
إنهم جهلاء ويحسبون أنفسهم من العلماء! إنهم جامدون ويحسبون أنفسهم متحررين (وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون! ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
غفر الله لهم وهداهم إلى الحق. والحق منهم على قيد ذراع.
مجلة الرسالة
العدد 1022 - بتاريخ: 02 - 02 - 1953

مبادئ العالم الحر!
من مجلة الرسالة
العدد 1018 - بتاريخ: 05 - 01 - 1953
للأستاذ سيد قطب
(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في إنجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا على تلك الكتلة الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر)!
و (العالم الحر) مشغول في هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس ومراكش وفي كينيا وفي فيتنام. . وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان لأن رسالة العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء!
و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة والدبابة؛ وهي أقدر ولاشك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المختلفة!
و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في أيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهمفي هذه الأرض المعذبة!
و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في كينيا ومصر وفي كل مكان؛ ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات والرجال والنساء في هذه الأيام؟!
وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج. . فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله واضح - كما قلت - وهو نقل بادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب المتأخرة، التي لا يجوز أن تظل متأخرة!
إنني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أنت صنع في الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب. فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما كانت وكما هي كائنة، وما ستكون حتى يأذن الله لها بالفناء
كلا! إنما أنا أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا وجمعياتنا. . ألفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة الغربية؟ هل خرست الألسن التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي واليونسكو والنقطة الرابعة وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنجز في صخرة المقاومة الشعبية؟
أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب، وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل ويمكن لها من الإعلان!
إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة؛ ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة؛ ويحار بنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة فيبلادنا. . . وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.
وواجبنا نحن أن نكافح، واجبنا أن نكافح الوسائل الاستعمارية الحديثة، ونكافح الهيئات والجماعات والمؤسسات التي تيسر العمل لهذه الوسائل: مهما كانت أسمائها بريئة إن الاستعمار الروحي والفكري هو الاستعمار الخطير حقاً. فاستعمار الحديد والنار يثير المقاومة بطبيعته، ويؤرث الأحقاد القومية التي تقتلع الاستعمار من أساسه. أما الاستعمار الروحي والفكري فهو استعمار ناعم لين، مخدر، ينوم الشعوب ويستل أحقادها المقدسة التي يجب أن تتأجج، وتستحيل ناراً وشواظاً يحرق ويدمر الاستعمار عملاءه في يوم من الأيام.
لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجج، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية). ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة يومها إلى أمين عثمان وجمعيته.
الشخصيات المستوزرة التي تشم رائحة الحكم من عشرات الأميال. . . ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات ودوافعها!
واليوم يقوم رجل آخر بدور أمين عثمان. يقوم به في محيط آخر وتحت عنوان آخر. وتهرع الشخصيات الكبيرة ذاتها إلى الانضمام إليه. . . وما من شك في أن الأمة بحاستها السليمة ستظل في معزل عن هذه المحاولة الجديدة. . ولكن الاطمئنان إلى حاسة الأمة لا يجوز أن يقعد بالشباب الواعي عن التنبيه إلى هذا الخطر الجديد، وإلى التحذير من وسائله الناعمة وعنوانه البريء.
إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والخدر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!
في الغرب يقوم (العالم الحر) وفي الشرق تقوم (الديمقراطية الشعبية) ونصيب هذه الديمقراطية من اسمها كنصيب العالم الحر من اسمه بسواء!
فالديمقراطية الشعبية هي الديمقراطيات التي تحكم حكماً ديكتاتورياً مباشراً، تحرسه الجاسوسية الرهيبة؛ ولا تسمح لفرد من الشعب فضلا على الشعب كله أن يفكر بحرية، لا أن يفكر في الحريةذاتها بحال!
وإذا كان العالم الحر أجهزته وأقلامه وألسنته، فان للديمقراطية الشعبية أجهزتها وأقلامها وألسنتها. . وكلها تعمل في محيطنا العربي والإسلامي. . . وكلها تستحق منا المكافحة كما نكافح الاستعمار. . . إلا أن الاستعمار يجثم على صدورنا اليوم ويخنق أنفاسنا بعنف. والواجب يقتضينا أن نوجه المقاومة الإيجابية للاستعمار، والمقاومة الفكرية للديمقراطيات الشعبية!
والراية التي تجمعنا لنكافح. . . هي وحدها راية الإسلام.
إن بعضنا يؤثرون أن يتجمعوا تحت الراية العربية. . . وأنا لا أُعارض في أن يكون هذا تجمعاً وقتياً يهدف إلى تجمع أكبر منه، فليسهناك تعارض جدي بين القومية العربية والوطنية الإسلامية إذا نحن فهمنا القومية العربية على أنها خطوة في الطريق. إن أرض العرب كلها جزء من أرض الإسلام، فإذا نحن حررنا الأرض العربية فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي، نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير.
والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالما. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء؛ فالعالم يسير نحو التكتل في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.
والمجموعة الآسيوية الإفريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهنالك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي ترتبط بينها اليوم مصالح مؤقتة. أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديمقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها فهي سندنا الحقيقي الوحيد.
سيد الظلال ـ روائع الظلال : من تفسير سورة الأنعام
حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية
وأصحاب الدعوة إلى دين الله , وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها , والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله [ ص ] أولى خطواته في الدعوة , بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق , ويعبدهم له دون سواه .
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى:"إله" ومعنى:"لا إله إلا الله" . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها , معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام , ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر , والسلطان على الشعائر , والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال , والسلطان في القضاء , والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن:"لا إله إلا الله" ثورة على السلطان الأرضي , الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية , وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا , ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة:"لا إله إلا الله" - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف , وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ? ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ?
لقد بعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين , وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم , يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان . وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس . . وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة , التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود , وارتضوا حكمه , منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب , التي أكلتها الثارات , ومزقتها النزاعات , وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . .
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة !
وربما قيل:إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه , وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [ ص ] هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله:وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !
لماذا ? إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاعوت ! . . إن الأرض لله , ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية:"لا إله إلا الله" . . وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! إن الناس عبيد لله وحده , ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية:"لا إله إلا الله" . . "لا اله الا الله" كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته:لا حاكمية إلا لله , ولا شريعة إلا من الله , ولا سلطان لأحد على أحد , لأن السلطان كله لله . . ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة , التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .
وهذا هو الطريق . .
وبعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين , والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . . قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة , لانقسم المجتمع العربي صفين:الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة , في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه:"لا إله إلا الله" التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .
وربما قيل:إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه , وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجهه هذا التوجيه . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع , ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ;ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلى ء قلوب بالطمع , ولا تمتلىء قلوب بالحقد ; ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا ; وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير:"لا إله إلا الله" . .
وبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .
كان التظالم فاشيا في المجتمع , تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبى سلمى:
( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه **** يهدم , ومن لا يظلم الناس يظلم )
ويعبر عنه القول المتعارف: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد:
( فلولا ثلاث هن من زينة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي )
( فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد ! )
. . . الخ
وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا التجمع . . كالذي روته عائشة رضي الله عنها:
"إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:فنكاح منها نكاح الناس اليوم:يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته , فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر:يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة , كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت , ومر عليها ليال , بعد أن تضع حملها , أرسلت إليهم , فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع , حتى يجتمعوا عندها , تقول لهم:قد عرفتم الذي كان من أمركم , وقد ولدت , فهو ابنك يا فلان , تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها , ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما , فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها , جمعوا لها ودعوا القافة , ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه , ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك" . . . [ أخرجه البخاري في كتاب النكاح ] .
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يعلنها دعوة إصلاحية , تتناول تقويم الأخلاق , وتطهير المجتمع , وتزكية النفوس , وتعديل القيم والموازين . .
وكان واحدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة , يؤذيها هذا الدنس ; وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .
وربما قال قائل:إنه لو صنع رسول الله [ ص ] ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة ; تتطهر أخلاقها , وتزكو أرواحها , فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [ ص ] إلى مثل هذا الطريق . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة , تضع الموازين , وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط , وبلا سلطان , وبلا جزاء !
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد , ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب:"لا إله إلا الله" . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .
تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله:رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله , ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ; ويسميها راية الإسلام , لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها:"لا إله إلا الله" !
وتطهرت النفوس والأخلاق , وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه , والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .
وارتفعت البشرية في نظامها , وفي أخلاقها , وفي حياتها كلها , إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم , في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا , لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني , والابتلاء الشاق , والمضي في الدعوة , ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان , في كل زمان وفي كل مكان , وهو:"لا إله إلا الله"
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم , وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم , ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .
لما أن علم الله منهم ذلك كله , علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر , وفي الأرواح والأموال , وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها , وعلى عدل الله يقيمونه , دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولالجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته , لأنهم يعلمون أنه من الله , هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع , إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء , وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته .
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله , لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية , أو دعوة اجتماعية , أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد:"لا إله إلا الله" . .
سيد قطب : حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية
الاثنين، 9 ديسمبر 2013
الناشر : الإمام الشهيد سيد قطب